دُرر من سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
عمر الفاروق.. وما أدراكما الفاروق فهو الذي فرق بين الحق والباطل.
وهو الذي يخشى على نفسه عند لقاء ربه, فكان يقول.. يا ليت أم عمر لم تلد عمر وهو المبشر بالجنة.
وقال: ماذا تقول لربك غداً.. عندما أنطلق يجري وراء بعير انطلق من مربطه وهو من صدقات مال المسلمين, فقال قولته المشهورة: والله لو أن عنزاً ذهبت بشاطئ الفرات لأخذ بها عمر يوم القيامة.
الزهو بالنفس عنده تحت القدمين..! بعد انتصاراته الباهرة وغزواته وفتوحاته التي أخضعت الفرس والروم وبلغ الإسلام مجده, صعد المنبر يوماً وقال: يا أيها الناس- لقد رأيتموني وأنا أرعى غنماً لخالاتي نظير حفنة من تمر أو زبيب, فتعجب الناس من كلامه هذا.. فلحقه عبد الرحمن بن عوف بعدما غادر المنبر وقال له لماذا قلت هذا الكلام! قال أمير المؤمنين.. خلوت بنفسي فقالت لي أنت أمير المؤمنين والقائد فليس بينك وبين الله أحد.. من مثلك!؟ ف حبيت أن أزجرها وأكبت جماحها علناً.
عندما ولى أميراً للمؤمنين..
قال للناس.. (( أيها الناس..إني قد وليت عليكم, ولو لا رجاء أن أكون خيركم لكم, وأقواكم عليكم, وأشدكم إطلاعا بأموركم ما توليت ذلك منكم, ولكفي عمر انتظار الحساب.. أي ورع هذا..!
يقول من ورعه وخوفه من الله:
إذا نمت الليل ضيعت نفسي, وإذا نمت النهار ضيعت الرعية.
كان يتحدث يوما في مجلس.. فقال له رجل..أتق الله يا عمر.. وظل يرددها فزجره أحد الصحابة وقال له (صه) فقال له عمر: دعه فلا خير فيكم إن لم تقولوها.. ولا خير فينا إن لم نسمعها.
كان يقول: ( كيف يعنيني شأن الناس, إذا لم يصيبني ما يصيبهم!؟) في عام الرمادة ( عام مجاعة قاتلة في المدينة) أمر بنحر جزور وتوزيع لحمه على الناس وعند الغداء وجد على المائدة ( سنام وكبد) وهي أطيب أجزاء الذبيحة فقال من أين هذا؟ قيل له من الجزور التي ذبحت, قال: ( بخ بخ) بئس الوالي أنا, إن طعمتُ أطيبها وتركت للناس كراديسها أي عظامها, أرفعوها عني وأتوا لي ب خبز وزيت.. أي إيثار هذا..؟
موقف آخر عندما أرسل له واليه على أذربيجان عتبة بن فرقد, هدية حلوى تذوقها عمر ثم أعجب بها.. فسأل الرسول الذي أتى بها فقال: هل كل الناس هناك يأكلونها فقال له: هذا طعام الخاصة فقط, فقفلها وقال له أرجع بها للوالي وقل له عمر يقول لك.. أتق الله, وأشبع المسلمين مما تشبع منه..!؟
كان إذا سن قانوناً, أو حظر أمراً, جمع أهله أولاً وقال لهم (إني قد نهيت الناس عن كذا, وكذا وإن الناس ينظرون إليكم كما ينظر الطير إلى اللحم, فإن وقعتم وقعوا, وإن هبتم هابوا, وإني والله لا أوتي برجل منكم وقع فيما نهيت الناس عنه إلا ضاعفت له العذاب لمكانه مني.. فمن شاء منكم فليتقدم, ومن شاء فليتأخر).
قال لأبنه عبد الله.. أ لأنك أبن أمير المؤمنين قالها عندما رأى جِمال عبد الله سمان ترعى, فسأل الناس من جِمال هذا قالوا له جِمال عبد الله بن عمر, فقال إليّ به حالاً فسأله من أين لك بها قال اشتريتها ب حُرِ مالي وأسمنها ثم أبيعها, قال له بيعها الآن وخذ رأس مالك وضع الربح في بيت مال المسلمين.
( إن القرابة عنده لا تعني الأثرة والحظوة إنما تعني الشظف..ّ؟)
كيف يختبر رعيته:
صعد المنبر يوماً فقال: يا معشر الناس.. ماذا لو مِلتُ برأسي إلى الدنيا هكذا.. فتقدم أحد الرجال يشق الصفوف.. فوقف أمامه ولاح بيده كأنه يحمل سيفاً ممشوقاً وقال: حينها نقول هكذا.. فقال عمر: أياي تعني ما تقول, قال الرجل: إياك أعني بقولي.. فقال له عمر.. يرحمك الله, والحمد لله الذي جعل فيكم من يقّوم عوجي, فكان يتهلل وجه فرحاً عندما يقول له شخص( لا) أو يبدئ برأي شجاع.. وكان يبغض المجاملين والمداهنين.
يكاد يسبق الوحي:
يقول عمر لرسول الله(ص) يوماً: يا رسول الله.. أليس هذا مقام إبراهيم أبينا؟ يقول رسول الله بلى.. فيقول عمر: فلو اتخذت منه مُصَلّى, فما هي إلا أيام حتى يتنزل الوحي إلى رسول الله بالآية الكريمة ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ).
أيضاً موقفه من الصلاة على رأس المنافقين عبد الله بن سلول, عندما قال للرسول لا تصلي عليه وكيف تصلي على رأس المنافقين. فنزل قرآن يتلى إلى أن تقوم الساعة ( لا تصلي عليهم.. إلى آخر الآية )
المظاهر العابرة لا تكفي عنده لتكوين أحكام عن الناس:
يسمع أحداً يطري آخر ويمتدحه قائلاً, إنه رجل صدق. فيسأله عمر: هل سافرت معه يوماً..؟ يقول لا, هل كانت بينك وبينه خصومة يوماً..؟ يقول الرجل لا, هل ائتمنته يوماً على شئ..؟ يقول لا.. فيقول عمر..( إذن لا علم لك به.. لعلك رأيته يرفع رأسه في المسجد ويخفضه..!؟)
أيضاً تحدث الناس عنده يوماً عن رجل وذكروه بخير فقالوا.. إنه لا يعرف الشر أبداً. فقال عمر: ذاك أجدر أن يقع فيه.. فليس معنى هذا الكلام أن ارتكاب الشر ضروري لمعرفته, إنما معناه أن يكون الإنسان بصيراً بالشرور حتى لا تغزوه متنكرة في ثياب الخير.
الاجتهاد في فكر عمر:
عمر الذي كان يتحرى التزام النص ومتابعة الرسول في أفعاله, يعلن إنهاء حكم شرعي مات الرسول وهو نافذ قائم, ومات أبو بكر الصديق وهو نافذ قائم, ولا يزال منطوق هذا الحكم آية تتلى في كتاب الله..!؟
هذا الحكم, هو تخصيص جزء من ضريبة الزكاة للمؤلفة قلوبهم, الذين دخلوا الإسلام باقتناع ضعيف, أو بغير اقتناع.. ففرض القرآن لهم في بيت المال حظاً يأخذونه من الزكاة تألفاً لهم, حتى لا ينصرفوا عن الدين.
فقلب عمر وجوه الرأي في هذا الشأن ثم قال: ( لقد كان رسول الله يعطيهم, والإسلام يومئذ ضعيف.. أما اليوم فقد أعز الله دينه وأعلى كلمته, فمن شاء ف ليؤمن ومن شاء ف ليكفر, ولن يتسع هذا الدين إلا لمن يدخله راغباً مؤمناً).
في إحدى الليالي.. وقد خرج في المدينة يتفقد الرعية, سمع سيدة تشكو بثها وحزنها لبعد زوجها عنها في الحرب وكانت تقول: تطاول هذا الليل وازور جانبه ** وليس إلى جنبي خليلٌ أداعبه
ف والله لولا اللهُ لا رب غيره ** لزلزل من هذا السرير جوانبه
مخافة ربي والحياء يصدني ** وأُكـرم بَعلي أن تُنال ركائبه
ثم قالت: أهكذا يهون على ( عمر) وحشتنا وغيبة رجُلنا عنا..؟
فرجع عمر مسرعاً بعد أن سمع هذا الإنشاد وسأل حصة ( أبنته) كم تصبر المرأة على زوجها؟! قالت تصبر شهراً, شهرين, ثلاثة, وينفذ مع الشهر الرابع صبرها.
ف سن من فوره قانوناً, بأن لا يغيب في الجهاد جندي متزوج أكثر من أربعة أشهر.. ويرسل إلى زوج المرأة ويستدعيه من فوره.
أيضاً خرج في إحدى الليالي.. ومعه بعض الصحابة فرأوا قافلة تنيخ بالقرب من المدينة فقال: علينا حراستها حتى الصباح, وبينما هم كذلك سمع صراخ طفل, ثم أشتد الصراخ ف هزه ذلك فأقترب من القافلة تجاه الصوت وقال لأمه أسكتيه, ثم رجع ثم بدأ الطفل بالصراخ ثانية, فرجع لأمه وقال لها ويحك يا امرأة أرضعيه ليسكت, فقالت له إني أفطمه.. فقال لها وكم عمره؟ قالت: أربع شهور, قال لها أو تفطمينه في هذه السن, قالت: أمير المؤمنين عمر لا يعطي الطفل حق من بيت المال إلا بعد الفطام ( والفطام حولين) ولكنها تستعجل له الفطام لتأخذ الحق, فقال لها ويحك!؟ ثم سن حق للطفل منذ أن يولد حتى لا يفطم الطفل قبل العامين وهو حقه في الرضاعة.
مواقف الرحمة عنده ورحمته حتى لمن يجب عليه الحد:
جئ إليه بمسلم أرتكب ما يوجب الحّد, ويشهد ثلاثة شهادة تدينه, ولم يبق إلا شهادة الرابع, ثم يصير الحد عقاباً محتوماً.. فيؤتى بالشاهد الرابع.. وحين يقترب الشاهد, ينظر إليه عمر أمير المؤمنين ويقول: (أرى رجلاً أرجو ألا يفضح الله به أحداً من المسلمين) فيتقدم الشاهد ويقول: لم أر شيئاً يوجب الحد فيطلق سراح المذنب ويتنفس عمر الصعداء.
وكان يوصي الناس..( إذا رأيتم أخاً لكم زلّ زلّة فسددوه ووفقوه, وادعوا الله أن يتوب عليه, ولا تكونوا عوناً عليه للشيطان).
أيضاً جاءه يوماً رجلاً فقال ل عمر ( إن ابنتي كانت أصابت حداً من حدود الله, وأخذت الشفرة وقطعت بعض أوداجها فداويناها حتى برئت, ثم تابت بعدُ توبة حسنة, وهي اليوم تُخطب إلى قوم, أ فأخبرهم بالذي كان..؟ فيجيبه عمر ذو الورع الذكي, والذكاء الورع..( أتعمد إلى ماستره الله فتبديه؟ والله لئن أخبرت بها أحداً من الناس لأجعلنك نكالاً لأهل الأمصار, أذهب وأنكحها نكاح العفيفة المسلمة.
يحَدِث في المال.. فيقول:
( ألا إني ما وجدت صلاح هذا المال إلا بثلاث.. أن يؤخذ من حق, ويعطى في حق.. ويمنع من باطل, ألا وإنما أنا في مالكم هذا كوالي اليتيم.. إن استغنيت استعففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف.
ويقول في توزيع الثروة: ( إني حريص على ألا أدع حاجة إلا سددتها ما اتسع بعضنا لبعض, فإذا عجزنا تآسينا في عيشنا حتى نستوي في الكفاف..!؟)
يقول في منهج القضـاء:
وهو يكتب إلى أبي موسى الأشعري عندما كان والياً على الشام ( من أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس.. سلام الله عليك.. أما بعد.. فإن القضاء فريضة محكمة, وسنة متبعة, فأفهم إذا أدلى إليك, وأنفذ إذا تبين لك, فإنه لا ينفع حق لا نفاذ له, آسِ بين الناس في مجلسك ووجهك, حتى لا يطمع شريف في حيفك, ولا ييأس ضعيف من عدلك.. * البينة على من ادعى, واليمين على من أنكر.. الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحلََّ حراماً أو حرم حلالاً.
ويكتب إليه أيضا..( بلغني أنه فشا لك ولأهلك هيئة في لباسك ومطعمك ومركبك ليس للمسلمين مثلها, ف.. إياك يا عبد الله أن تكون بمنزلة البهيمة التي مرت بوادٍ خصيب فلم يكن لها هم إلا السُمن,وإنما حتفها في السُمن..! وأعلم أن للعامل مردّاً إلى الله, فإذا زاغ زاغت رعيته, وإن أشقى الناس من شقيت به رعيته..!؟
تواضعه ومروءته:
رأى عجوزاً تحمل حملاً ثقيلاً, فيتقدم ويحمله عنها بعض الطريق, ويضحك ملء نفسه, وهي تقول له شاكرة أثابك الله الخير يا بني.. إنك لأحق بالخلافة من عمر..!؟
أيضاً خرج مرة في جولة من جولاته في الليل, فسمع أنين امرأة في كوخ وزوجها يجلس خارج الكوخ فعرف إنه مخاض, فأسرع إلى بيته وقال لزوجته ( أم كلثوم) بنت الأمام علي كرم الله وجهه.. هل لك في مثوبة ساقها الله إليك.. قالت خيرا.. قال: امرأة غريبة في مخاض وليس معها أحد, قالت نعم إن شئت, فقام وأعد من الزاد والماعون ومزق بعض الثياب ليلف بها المولود.. وانطلقا إلى الكوخ ودخلت زوجته وهو بقى في الخارج يوقد في النار ويعد الطعام( هذا أمير المؤمنين..!) وزوج المرأة محتار في أمره حتى بشرته أم كلثوم بغلام.. فعندما قالت أم كلثوم يا أمير المؤمنين بشر صاحبك بغلام.. تسمر الرجل في مكانه ولم يصدق بأن هذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب, ثم قال للرجل ( إذا كان صباح الغد فأتني بالمدينة, لآمر لك من بيت المال بما يصلحك, ولنفرض للوليد حقه.. الله أكبر أيها الفاروق.
إن بساطة عمر تكشف الحماقة الكبرى التي يخوض فيها كل من يأخذه الزهو والصلف بمنصب يناله, أو نصر يبلغه, أو ثروة يجمعها, فما الصلف والتكلف إلا عبء ثقيل يحمله المخدوعون به, ويصطلون بعذابه وهم لا يشعرون.
هذا الرجل الذي كان إسلامه فتحاً.. ثم هاجر فكانت هجرته نصراً.. إلى أن صار أميراً للمؤمنين تتهادى تحت ضرباته أركان العالم القديم كله..! هذا الرجل صاحب هذه الحياة الحافلة دوماً.. الظافرة أبداً.. كانت أروع انتصاراته هذا الورع الذكي الجليل الذي أعطى دنيا الناس والحكام قدوة لا تبلى.. اللهم أجمعنا بهم في الفردوس الأعلى يا رب.. آمييييييييييين.
إعداد وتلخيص: سعد الدين حسن بابكر
مملكة البحرين- المنامة
التاريخ/10/7/2007م